فصل: قال ابن عطية في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15)}
قوله تعالى: {فلا} إما أم تكون (لا) زائدة، وإما أن يكون رد القول قرش في تكذيبهم بنبوة محمد عليه السلام، وقولهم إنه ساحر وكاهن ونحو ذلك، ثم أقسم الله تعالى: {بالخنس الجوار الكنس} فقال جمهور المفسرين: إن ذلك الدراري السبعة: الشمس والقمر وزحل وعطارد والمريخ والزهرة والمشتري، وقال على بن أبي طالب: المراد الخمسة دون الشمس والقمر. وذلك أن هذه الكواكب تخنس في جريها أي تتقهقر فيما ترى العين، وهو جوار في السماء، وأثبت يعقوب الياء في {الجواري} في الوقف وحذفها الباقون وهي تكنس في أبراجها أي تستتر، وقال على بن أبي طالب أيضاً والحسن وقتادة: المراد النجوم كلها لأنها تخنس بالنهار حين تختفي، وقال عبد الله بن مسعود والنخعي وجابر بن زيد وجماعة من المفسرين: المراد {بالخنس الجوار الكنس}: بقر الوحش لأنها تفعل هذه الأفعال في كناسها وهي المواضع التي تأوي إليها من الشجر والغيران ونحوه، وقال ابن عباس وابن جبير والضحاك: هي الظباء، وذهب هؤلاء في الخنس إلى أنه من صفة الأنوف لأنها يلزمها الخنس، وكذلك هي بقر الوحش أيضاً ومن ذلك قول الشاعر الطويل:
سوى نار بض أو غزال صريمة ** أغن من الخنس المناخر توأم

(وعسعس الليل) في اللغة: إذا كان غير مستحكم الإظلام، وقال الحسن بن أبي الحسن: ذلك وقت إقباله وبه وقع القسم، وقال زيد بن أسلم وابن عباس ومجاهد وقتادة: ذلك عند إدباره وبه وقع القسم، ويرجع هذا قوله بعد: {والصبح إذا تنفس}، فكأنهما حالان متصلتان ويشهد له قول علقمة بن قرط: الرجز:
حتى إذا الصبح لها تنفّسا ** وانجاب عنها ليلها وعسعسا

وقال المبرد أبو العباس: أقسم بإقباله وإدباره، قال الخليل: يقال عسعس الليل وسعسع إذا أقبل وأدبر، و(تنفس الصبح): استطار واتسع ضوؤه، وقال علوان بن قس: الطويل:
وليل دجوجي تنفس فجره ** لهم بعد أن خالوه لن يتنفسا

والضمير في {إنه} للقرآن، و(الرسول الكريم) في قول جمهور المتأولين: جبريل عليه السلام، وقال آخرون: هو محمد عليه السلام في الآية، والقول الأول أصح، و{كريم} في هذه الآية يقتضي رفع المذام، ثم وصفع بقوة منحه الله إياها، وختلف الناس في تعليق: {عند ذي العرش}، فذهب بعض المتأولين إلى تعلقه بقوله: {ذي قوة}، وذهب آخرون إلى أن الكلام تم في قوله: {ذي قوة} وتعلق الظرف: بـ: {مكين}، و{مكين} معناه: له مكانة ورفعة، وقوله تعالى: {مطاع ثم أمين} أي مقبول القول مصدق بقوله مؤتمن على ما يرسل به، ويؤدي من وحي وامتثال أمر، وقرأ أبو جعفر: {ثُم أمين} بضم الثاء، وذكر الله تعالى نفسه بالإضافة إلى عرشه تنبيهاً على عظم ملكوته، وأجمع المفسرون على أن قوله: {وما صاحبكم} يراد به محمد صلى الله عليه وسلم، والضمير في {رآه}: جبريل عليه السلام، وهذه الرؤية التي كانت بعد أمر غار حراء حين رآه على كرسي بين المساء والأرض، وقيل هذه الرؤيا التي رآه عند سدرة المنتهى في الإسراء، وسمى ذلك الموضع أفقاً مجازاً، وقد كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم رؤية ثانية بالمدينة، وليست هذه، ووصف الأفق بـ: {المبين}، لأنه كان بالشرق من حيث تطلع الشمس، قاله قتادة وأيضاً فكل أفق فهو في غاية البيان، وقوله تعالى: {وما هو على الغيب بضنين} بالضاد بمعنى: بخيل أي يشح به، ولا يبلغ ما قيل له، ويبخل كما يفعل الكاهن حتى يعطى حلوانه، وبالضاد هي خطوط المصاحف كلها، فيما قاله الطبري وهي قراءة نافع وعاصم وابن عامر وحمزة وعثمان بن عفان وابن عباس والحسن وأبي رجاء والأعرج وأبي جعفر وشيبة وجماعة وافرة.
وقرأ ابن كثير وعمرو والكسائي وابن مسعود وابن عباس وزيد بن ثابت وابن عمر وابن الزبير وعائشة وعمر بن عبد العزيز وابن جبير وعروة بن الزبير ومسلم وابن جندب ومجاهد وغيرهم: {بظنين}، بالظاء أي بمتهم، وهذا في المعنى نظير وصفه بـ: {أمين}، وقيل معناه: بضعف القوة عن التبليغ من قولهم: بئر ظنون إذا كانت قليلة الماء، ورجح أبو عبيد قراءة: الظاء مشالة لأن قريشاً لم تبخل محمداً صلى الله عليه وسلم فيما يأتي به وإما كذبته، فقيل ما هو بمتهم، ثم نفى تعالى عن القرآن أن يكون كلام شيطان على ما قالت قريش: إن محمداً كاهن، و{رجيم} معناه: مرجوم مبعد بالكواكب واللعنة وغير ذلك، وقوله تعالى: {فأين تذهبون} توقيف وتقرير على معنى: أين المذهب لأحد عن هذه الحقائق، و{الذكر} هنا: مصدر بمعنى التذكرة، ثم خصص تعالى من شاء الاستقامة بالذكر تشريفاً وتنبيهاً وذكراً لتكسبهم أفعال الاستقامة، ثم بين تعالى أن تكسب المرء على العموم في استقامة وغيرها إنما يكون مع خلق الله تعالى واختراعه الإيمان في صدر المرء، وروي أنه نزل قوله تعالى: {لمن شاء منكم أن يستقيم} فقال أبو جهل: هذا أمر قد وكل إلينا، فإن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم، فنزلت {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله} يقول الله تعالى: «يا ابن آدم تريد وأريد فتتعب فيما تريد ولا يكون إلا ما أريد». اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{فَلاَ أُقْسِمُ بالخنس} أي الكواكبِ الرواجع مِنْ خَنَسَ إذَا تأخرَ وهيَ ما عَدَا النيرينَ منَ الدَّرارِي الخمسةِ وهيَ بهرامُ وزُحَلُ وعُطَارِدُ والزُّهْرَةُ والمُشتَرى وُصفتْ بقوله تعالى: {الجوار الكنس} لأنها تَجْري مع الشمسِ والقمرِ وترجعُ حتَّى تختفي تحتَ ضوءِ الشمسِ فخنُوسها رجوعُها وكنوسُها اختفاؤُها تحتَ ضوئِها من كنسَ الوحشُ إذا دخلَ كُناسَهُ وهو البيتُ الذي يتخذهُ من أغصانِ الشجرِ وقيل هي جميعُ الكواكبِ تخنِسُ بالنهار فتغيبُ عنِ العُيونِ وتكنسُ بالليل أي تطلعُ في أماكنِها كالوحشِ في كُنُسِها.
{واليل إِذَا عَسْعَسَ} أي أدبرَ ظلامُه أو أقبلَ فإِنَّه منَ الأضَّدادِ وكذلكَ سعسعَ قال الفراءُ أجمعَ المفسرونَ على أنَّ معنى عسعسَ أدبرَ وعليه قول العَجَّاجِ:
حَتَّى إِذَا الصُّبْحُ تَنفَّسَا ** وَانجَابَ عنَها ليلُها وعَسْعَسَا

وقيلَ هيَ لغةُ قريشٍ خاصَّة وقيلَ: مَعْنى إقبالِ ظلامِه أوفقُ لقوله تعالى: {والصبح إِذَا تَنَفَّسَ} لأنَّه أولُ النهارِ وقيل: إدبارُه أقربُ من تنفسِ الصبحِ ومعناهُ أنَّ الصبحَ إذَا أقبلَ يقبلُ بإقبالِه رَوحٌ ونسيمٌ فجعلَ ذلكَ نفساً لَهُ مجازاً فقيلَ تنفَّسَ الصبحُ.
{أَنَّهُ} أي القرآن الكريمَ الناطقَ بما ذُكِرَ من الدَّواهِي الهائلةِ {لَقول رَسُولٍ كَرِيمٍ} هو جبريلُ عليه السلام قاله من جهةِ الله عزَّ وجلَّ {ذِى قُوَّةٍ} شديدةٍ كقوله تعالى: {شَدِيدُ القوى} وقيلَ المرادُ القوةُ في أداءِ طاعةِ الله تعالى وتركِ الإخلالِ بَها من أولِ الخلقِ إلى آخرِ زمانِ التكليفِ {عِندَ ذِى العرش مَكِينٍ} ذِي مكانةٍ رفيعةٍ عندَ الله تعالى عنديةَ إكرامٍ وتشريفٍ لا عنديةَ مكانٍ {مطاع} فيما بينَ ملائكتِه المقربينَ يصدرُون عن أمرِه ويرجعونَ إلى رأيه {ثَمَّ أَمِينٍ} على الوَحْي، وثمَّ ظرفٌ لما قبَلهُ وقيلَ: لما بعدَهُ. وقرئ ثُمَّ، تعظيماً لوصفِ الأمانِةَ وتفضيلاً لها على سائرِ الأَوْصَافِ {وَمَا صاحبكم} هو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم {بِمَجْنُونٍ} كما تبهتُه الكفرةُ والتعرضُ لعنوانِ المصاحبةِ للتلويحِ بإحاطتِهم بتفاصيلِ أحوالِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ خبراً، وعلمُهم بنزاهتِه عليه السلام عمَّا نسبُوه إليهِ بالكليةِ. وقد استُدلَّ بهِ على فضلِ جبريلَ عليِه عليهما السَّلامُ للتباين البينِ بين وصفيهما، وهو ضعيفٌ إذِ المقصودُ ردُّ قول الكفرةِ في حقِّهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ.
{إنما يعلمه بشرٌ} {أفترى على الله كذباً أم بهِ جِنَّة} لا تعدادُ فضائلِهما والموازنةُ بينهُما.
{وَلَقَدْ رَءاهُ} أي وبالله لقد رأى رسولُ الله جبريلَ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ {بالأفق المبين} بمطلعِ الشمسِ الأَعلى {وَمَا هُوَ} أي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم {على الغيب} على ما يخبرُه من الوَحْي إليهِ وغيرِه من الغيوبِ {بضنين} أي ببخيلٍ لا يبخلُ بالوَحْي ولا يُقصِّرُ في التبليغ والتعليمِ. وقرئ بظنين أي بمتهمٍ من الظنة وهي التهمةُ {وَمَا هُوَ بِقول شيطان رَّجِيمٍ} أي قول بعضِ المُسترقةِ للسمعِ وهو نفيٌ لقولهم إنَّه كهانةٌ وسحرٌ.
{فَأيْنَ تَذْهَبُونَ} استضلالٌ لهم فيما يسلكونَهُ في أمرِ القرآن والفاءُ لترتيبِ ما بعدَهَا على ما قبلَها من ظهورِ أنَّه وحيٌ مبينٌ، وليسَ ممَّا يقولونَ في شيءٍ كما تقول لمن تركَ الجادَّةَ بعدَ ظهورِها هذا الطريقُ الواضحُ فأينَ تذهبُ {إِنْ هُوَ} ما هُو {إِلاَّ ذِكْرٌ للعالمين} موعطةٌ وتذكيرٌ لهم. وقوله تعالى: {لِمَن شَاء مِنكُمْ} بدل من العالمينَ بإعادةِ الجارِّ.
وقوله تعالى: {أَن يَسْتَقِيمَ} مفعولُ شاءَ أيْ لمَنْ شاءَ منكُم الاستقامةَ بتحرِّي الحقِّ وملازمةِ الصوابِ. وإبدالُه منَ العالمينَ لأنَّهم المنتفعونَ بالتذكيرِ {وَمَا} أي الاستقامةَ مشيئةَ مستتبعةَ لها في وقتٍ من الأوقاتِ {تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء الله} أي إلا وقتَ أنْ يشاءَ الله تعالى تلكَ المشيئةَ أي المستتبِعة للاستقامةِ فإن مشيئتَكُم لا تستتبعُها بدون مشيئةِ الله تعالى لها {رَبّ العالمين} مالكُ الخلقِ ومربيهم أجمعينَ. اهـ.

.قال السمرقندي في الآيات السابقة:

قوله تعالى: {إِذَا الشمس كورت}
قال أبو الليث رحمه الله حدثنا الحاكم أبو الفضل قال حدثنا محمد بن أحمد الكاتب المروزي حدثنا محمد بن حموية النيسابوري قال: حدثنا إبراهيم بن موسى قال: حدثنا هشام عن عبد الله عن يحيى بن عبد الرحمن بن يزيد عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إلى يوم القِيَامَةِ فَلْيَقرأ {إذَا الشَّمْسُ كورت}».
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {إِذَا الشمس كورت} يعني: ذهب ضوؤها وكذلك قال الضحاك وعكرمة يعني: اضمحلت وذهبت ويقال تكور كما تكور العمامة يعني: جُمِع ضوؤها ولُفَّ كما تُلف العمامة قوله تعالى: {وَإِذَا النجوم انكدرت} يعني: تناثرت وتساقطت {وَإِذَا الجبال سيرت} يعني: قُلعت عن الأرض وسيرت في الهواء كقوله: {قالتْ رَبِّ أنى يَكُونُ لِى وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ قال كذلك الله يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قضى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقول لَهُ كُن فَيَكُونُ} [الكهف: 47] يعني: خالية ليس عليها شيء من الماء والشجر وغيرها ثم قال: {وَإِذَا العشار عطلت} يعني: النوق الحوامل عطّلها أربابها اشتغالاً بأنفسهم وواحدها: عشراء وهي الناقة التي أتت على حملها عشرة أشهر وهي في الحمل فلا يعطلها أهلها إلا في يوم القيامة وهذا على وجه المثل لأن في يوم القيامة لا يكون ناقة عشراء، ولكن أراد به المثل يعني: أن هول يوم القيامة بحال لو كان عند الرجل عشراء يعطلها واشتغل بنفسه ثم قال: {وَإِذَا الوحوش حشرت} يعني: جُمِعَتْ {وَإِذَا البحار سجرت} يعني: ضجرت بعضها إلى بعض فصارت بحراً واحدًّا فملئت وكثر ماؤها كقوله: {والبحر المسجور} [الطور: 6] يعني: الممتلئ ويقال: سجرت أي أحميت بالكواكب إذا تساقطت وفيها قال ابن عباس إذا كان يوم القيامة كوَّر الله تعالى الشمس والقمر والنجوم في البحر ثم بعث الله تعالى ريحاً دبوراً فتنفخها فتصير ناراً وهو قوله: {وَإِذَا البحار سجرت} أي: أحميت.
وقال قتادة: سجرت أي: غار ماؤها، وقال الزجاج وقد قيل إنه جعل مياهها ناراً يعذب بها الكفار فهذه الأشياء الست التي ذكرها قبل النفخة الأخيرة والتي ذكرها بعدها تكون بعد النفخة الأخيرة وهو قوله: {وَإِذَا النفوس زوجت} قال الكلبي ومقاتل: يعني: نفوس المؤمنين قرنت بالحور العين ونفوس الكفار بالشياطين.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قوله: {وَإِذَا النفوس زوجت} قال الفاجر مع الفاجر والصالح مع الصالح وقال أبو العالية الرياحي قرنت الأجساد بالأرواح وقال القتبي الزوج القرين كقوله: {احشروا الذين ظَلَمُواْ وأزواجهم وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ}
[الصافات: 22] يعني: قرناءهم ثم قال: {وَإِذَا النفوس زوجت} أي: قرنت نفوس الكفار بعضها ببعض والعرب تقول زوجت إبلي إذا قرنت بعضها ببعض ويقال: وإذا النفوس زوجت يعني الأبرار مع الأبرار في زمرة والأشرار مع الأشرار في زمرة ثم قال: {وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ بِأَىّ ذَنبٍ قتلت}.
وكان العرب إذا ولد لأحدهم ابنة دفنها حية وهي الموءودة فتسأل يوم القيامة بأي ذنب قتلك أبوك وإنما يكون السؤال على وجه التوبيخ لقائلها يوم القيامة لأن جوابها قتلت بغير ذنب وهو مثل قوله تعالى: {وَإِذْ قال الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَءَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمِّىَ إلهين مِن دُونِ الله قال سبحانك مَا يَكُونُ لى أَنْ أَقول مَا لَيْسَ لِى بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا في نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا في نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ علام الغيوب} [المائدة: 116] وإنما سؤاله وجوابه تبكيت على من ادعى هذا عليه وقال عكرمة الموؤودة المدفونة، كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت فكانت أوان ولادتها حفرت حفرة فإن ولدت جارية رمت بها في الحفرة وإن ولدت غلاماً حبسته وقرئ في الشاذ {وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ بِأَىّ ذَنبٍ قتلت} يعني: المقتولة سئلت لأبويها بأي ذنب قتلتماني ولا ذنب لي قوله تعالى: {وَإِذَا الصحف نشرت} يعني؛ تطايرت الصحف وهي الكتب التي فيها أعمال بني آدم، قرأ ابن كثير وأبو عمرو {سجرت} و{سعرت} مخففتين، و{نشرت} مشددة وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم {سجرت} و{سعرت} مشددتين و{نشرت} مخففة وقرأ حمزة والكسائي {سجرت} و{نشرت} مخففتين و{سعرت} مشددة فمن شددها فلتكثير ومن خففها فعلى غير التكثير قوله تعالى: {وَإِذَا السماء كُشِطَتْ} يعني: نزعت من أماكنها كما يكشف الغطاء عن الشيء يعني: كشفت عما فيها ثم قال عز وجل: {وَإِذَا الجحيم سعرت} يعني: للكافرين {وَإِذَا الجنة أُزْلِفَتْ} يعني: قربت للمتقين فجواب هذه الأشياء قوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ} يعني؛ عند ذلك تعلم كل نفس ما عملت من خير أو شر وهذا كقوله تعالى: {يوم تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سواء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ والله رَءُوفُ بالعباد} [آل عمران: 30] الآية.
ثم قال عز وجل: {فَلاَ أُقْسِمُ بالخنس} يعني: الذي خنس بالنهار وظهر بالليل، ويقال الخنس النجوم التي تخنس بالنهار وتظهر بالليل {الجوار الكنس} الجوار التي تجري والكنس التي ترتفع وتغيب، وقال أهل التفسير الخنس يعني: خمسة من الكواكب فهران، وزحل، ومشتري، وعطارد، وزهرة التي تخنس بالنهار وتظهر بالليل، الجواري لأنهن تجري بالليل في السماء {الكنس} يعني: تستتر كما تكنس الظباء وقال أهل اللغة الخنس واحدها خانس كراكع وركَّع وقال بعضهم: الخنس أرادها هنا الوحوش والظباء وظباء الوحوش والجواري الكنس التي تدخل الكنائس وهذا غصن من أغصان الشجر ويكون معناه: أقسم برب هذه الأشياء وروى عكرمة عن ابن عباس: {الخنس} المعز، والكنس: الظباء ألم ترى إذا كانت في الظل كيف تكنس بأعناقها ومدت ببصرها؟ وروى الأعمش عن إبراهيم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: {بالخنس الجوار الكنس} هي بقر الوحش وقال على بن أبي طالب: هي النجوم، وقال القتبي هي النجوم الخمسة الكبار لأنها تخنس أي ترجع في مجراها وتكنس أي تستتر كما تكنس الظباء ثم قال عز وجل: {واليل إِذَا عَسْعَسَ} يعني: إذا أدبر وقال الزجاج: {عَسْعَسَ} إذا أقبل.
وعسعس: إذا أدبر والمعنيان يرجع إلى شيء واحد وهذا اتبداء الظلام في أوله وإدباره في آخره وقال مجاهد {إِذَا عَسْعَسَ} أي إذا أظلم ثم قال عز وجل: {والصبح إِذَا تَنَفَّسَ} يعني: إذا استضاء وارتفع، ويقال إذا امتد حتى يصير النهار بيناً، فأقسم بهذه الأشياء، ويقال يخالف هذه الأشياء {أَنَّهُ} يعني: القرآن {لَقول رَسُولٍ كَرِيمٍ} على ربه يقرأ على النبي صلى الله عليه وسلم وهو جبريل عليه السلام ثم أثنى على جبريل وبيَّن فضله فقال: {ذِى قُوَّةٍ} يعني: ذا شدة ويقال: أعطاه الله تعالى القوة ومن قوته أنه قلع مدائن قوم لوط بجناحه ثم قال عز وجل: {عِندَ ذِى العرش مَكِينٍ} يعني: عند رب العرش له منزلة {مطاع} يعني: يطيعه أهل السماوات {ثَمَّ أَمِينٍ} فيما استودعه الله من الرسالات ويقال: {مطاع} يعني: طاعته على أهل السموات واجبه كطاعة محمد صلى الله عليه وسلم على أهل الأرض {أَمِينٌ} على الرسالة والوحي، ويقال: {أَمِينٌ} في السماء كما أن محمد صلى الله عليه وسلم أمين في الأرض ثم قال عز وجل: {وَمَا صاحبكم} الذي يدعوكم إلى التوحيد لله تعالى: {بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَءاهُ} يعني: رأى محمدٌ صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام {بالافق المبين} عند مطلع الشمس ثم قال: {وَمَا هُوَ على الغيب بضنين} أي: ليس فيما يوحَى إليه من القرآن ببخيل وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه بظنين بظاء وهكذا قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي {بظنين} يعني: بمتَّهم أنه يزيد فيه أو ينقص والباقون بالضاد يعني: البخيل ثم قال: {بضنين وَمَا هُوَ بِقول شيطان رَّجِيمٍ} يعني: القرآن ليس بمنزلة قول الكهان.
قوله عز وجل: {فَأيْنَ تَذْهَبُونَ} يعني: تذهبون عن طاعتي وكتابي ويقال: أنى تذهبون يعني: تعدلون عن أمري وقال الزجاج معناه فبأي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي بينت لكم {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ للعالمين} يعني: ما هذا القرآن إلا عظة للجن والإنس.
قوله تعالى: {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} يعني: لمن شاء أن يستقيم على التوحيد فليستقم {وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء الله رَبُّ العالمين} فأعلمهم أن المشيئة والتوفيق والخذلان إليه وأن الأمور كلها بمشيئة الله تبارك وتعالى وإرادته والله الموفق وصلى الله على سيدنا محمد. اهـ.